روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | أشجان بائع متجول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > أشجان بائع متجول


  أشجان بائع متجول
     عدد مرات المشاهدة: 1893        عدد مرات الإرسال: 0

كالباعة الجائلين.. كان يطوف الشوارع يحمل حقيبة كبيرة.. ويطرق أبواب البيوت يعرض بضاعته.. ويمهل المشترين في أداء الثمن.

وككثيرين غيره من الباعة كان غريبًا عن البلدة جاء من بلده البعيد وراء رزقه وترك وراءه عبر الحدود زوجة وطفلة صغيرة تطول السنوات قبل أن يستجمع إرادته ويعود لزيارتهما شهرًا كل عامين أو ثلاثة أعوام.

وبين الأسر التي يتردد عليها عرف دائما بالطيبة والزهد في المساومة وعدم الغلاء في الأسعار، فتوثقت روابطه بها.. لكنه كان يخص بيت هذا السيد بحب خاص.. ليس فقط لدماثة طبعه وكرم أخلاقه وإنما أيضا لأن له طفلة صغيرة أحبها كثيرا ونشأت بينه وبينها صداقة عجيبة، فكان يعود إلى بيتها كل يوم أحيانا ويضع حقيبته ويجلس على الأرض فتأتي إليه الطفلة متهللة ويقدم لها قطع الحلوى ويلاعبها ويضاحكها لوقت طويل.. ثم ينهض حاملا حقيبته سعيدا وراضيًا، وتوجست الأم من نوايا هذا البائع تجاه ابنتها خاصة وهو عملاق فارع الطول، لكن زوجها طمأنها إلى أنه رجل طيب وحيد له طفلة في مثل عمرها في بلاده البعيدة..ولعله يتعزى عن إفتقاده لها بهذه اللحظات البريئة التي يلاعب فيها طفلتهما، ولم يحل الأب دون إستمرار هذه الصداقة الحميمة بين البائع العملاق وطفلته، فدامت وتوثقت.

وكان من عادة البائع الجوال كلما إقترب موعد عودته إلى بلده أن يتفرغ في الأيام السابقة للسفر لجمع ديونه لدى زبائنه.. ورغم إنشغاله في هذه الأيام الحافلة بالعمل فقد كان يجد دائمًا بعض الوقت ليأتي إلى بيت السيد ويجلس أمام الباب وينادي الصغيرة ليلعب معها ويعطيها ما أحضره لها من حلوى، وربما حدثها بما إشتراه لابنته وسوف يحمله إليها عند سفره.. وقد يشكو لها أحيانًا من مماطلة بعض الزبائن في سداد ديونهم، والصغيرة لا تفهم لكنها تضحك في إبتهاج فيضحك لضحكها في سعادة ورضا..

وذات يوم سمع السيد صوت ضجة كبيرة في الشارع وخرج من بيته ومعه طفلته فرأيا البائع يمسك به شرطيان وثيابه ملوثة بالدم وفي يد أحد الشرطيين سكين، وإستفسر السيد عن القصة فعرف أن البائع الجوال قد ضاق بإنكار أحد مدينيه لدينه عليه ففقد أعصابه وطعنه بالسكين..

وإنقطع البائع الجوال عن الحضور إلى البيت والنداء على الطفلة الصغيرة، ومضت السنوات، ثم فوجيء السيد ذات أصيل بالبائع يطرق الباب ويدخل عليه محييا، ورحب به السيد طويلا وعرف أنه قد أمضى ثماني سنوات في السجن، ثم إعتذر له بأن في البيت حفلا يقام هذا المساء، وسوف يأتي مدعوون كثيرون ورجاه أن يعود إلى زيارته في يوم آخر.. وشكره البائع العملاق وإستدار لينصرف.. لكنه توقف عند الباب وقال له في تردد:

ـ ولكن ألا أستطيع يا سيدي أن أرى الصغيرة ولو للحظة لقد أحضرت لها قطع الحلوى التي تحبها فهل تسمح لي بلقائها لحظة واحدة؟.

وتنبه السيد فجأة إلى حقيقة غريبة هي أن هذا البائع العملاق مازال يعتقد أن ابنته هي نفسها تلك الطفلة الصغيرة التي ستجري إليه ضاحكة وهي تترقب ما سوف يعطيه لها من حلوى..

وتأمل المفارقة متعجبًا..فالطفلة الصغيرة تستعد في هذه اللحظة للزواج والليلة هي ليلة زفافها.. وهو يود ألا يجرح مشاعر هذا الرجل الذي خرج إلى الحياة بعد سنوات من عزلة السجن وهو يعتقد أن الحياة خارجه قد بقيت على عهدها عندما إنفصل عنها.. وفكر أن يدعو إبنته لرؤية صديقها القديم لكنه تحرج من أن يعطلها ذلك عن زينتها وشأنها فقال له بحزم:

عندنا اليوم حفلة كبيرة.. ولن تستطيع أن تراها..

فنكس البائع العملاق رأسه..وإنصرف صامتًا وحزينًا وأحس الأب بالرثاء له.. وبالأسف لأنه لم يحقق له رغبته البسيطة وقال لنفسه لائما: ماذا لو كنت قد أسعدته بتحقيق هذه الرغبة الصغيرة!.وهم بأن يخرج وراءه ليناديه.. فرآه يعود إليه من تلقاء نفسه وهو يقول له في خجل: عفوا.. لقد أحضرت هذه الأشياء للصغيرة.. فأرجو أن تعطيها له..

ومد له بلفافة الحلوى.. فتناولها السيد وحاول أن ينقده ثمنها لكنه رفض ذلك بإصرار وهم بالإنصراف، فإستبقاه السيد وإستدعى ابنته لترى صديقها القديم.. فجاءت في ثوب الزفاف الأبيض، وذهل البائع العملاق، وأفاق على حقيقة أخرى مفاجئة هي أن ابنته التي تعيش خلف الحدود لابد قد أصبحت الآن فتاة شابة في مثل عمر هذه الفتاة.. فهما متماثلتان في العمر..

وهو لم يرها منذ ثمانية أعوام ونظر إلى صديقته القديمة وقال لها ضاحكا ومرتبكا: إذن لقد أصبحتِ عروسا.. وستذهبين الآن إلى بيت زوجك!..

فإحمر وجه الفتاة خجلا.. وزفر البائع زفرة طويلة كأنما يقول بها لنفسه..ما أسرع ما تمضي أمور الحياة، وقال الأب لإبنته العروس إن صديقها القديم قد جاء لها بالحلوى التي كانت تحبها وهي طفلة صغيرة وقدم لها اللفافة فتناولتها باسمة وشكرت البائع وعادت إلى الداخل، فلم يتمالك البائع مشاعره وجلس على الأرض مستسلما لتأملاته وأشجانه، وراح يحاول أن يتخيل كيف أصبحت ابنته البعيدة في بلاده الآن ويفكر في أنه لابد أن يتعامل معها الآن بطريقة مختلفة غير طريقته في التعامل معها وهي طفلة صغيرة.

بدأ العرس.. وظللت شمس الأصيل المكان.. والبائع العملاق جالس على الأرض وهو غارق في أفكاره، ثم أفاق منها على يد السيد صاحب البيت وهو يهزه، ويعطيه مبلغا كبيرا من المال ويلح عليه في قبوله ليستطيع أن يعود لرؤية ابنته في بلده بعد كل هذه السنوات..وتقبل البائع الورقة المالية بعد تردد طويل ونهض شاكرا السيد من قلبه ومتمنيا لإبنته كل السعادة، وإنصرف في خطوات بطيئة والسيد يرقبه بعطف ويقول لنفسه صحيح إنه سوف يضطر لإختصار بعض نفقات الحفل بسبب ما قدمه لهذا البائع من نقود..وسوف يسخط زوجته وسيدات الأسرة، لكن المؤكد أيضا أن حفل زفاف ابنته سيكون أكثر بهجة لأنه في مكان بعيد سوف يلتقي أب بابنته الوحيدة التي لم يرها منذ سنوات وسوف تسعد ابنة محرومة من أبيها بعودته إليها..

الكاتب: عبدالوهاب مطاوع.

المصدر: موقع رسالة المرأة.